(مفهوم التربيه والتعليم من خلال الوعي التربوي)
نعلم ان للعلم مكانته وأهميته ، وأن للمعرفة قيمتها وقدرها وأن للتعليم وظيفته ومنزلته ودوره. ولكنا نعلم أيضاً أن الانتفاع بالعلم ، واستخدام المعرفة ، وتقدير العائد والإنتاج من العلم والتعليم ، أمور مهمة ينبغي ان تأخذ مكان الصدارة في تفكيرنا خاصة عند رسم صورة مجتمعنا ، إذ لا فائدة من علم قليل ناقص ولا نفع من علم غزير حبيس ولا قيمة لتعليم تافه لا جدوى منه ..
والواجب ان يكون العلم طاقة خلاقة تدفع الانسان لكل عمل وطني ، وأن يؤثر العلم في سلوك كل فرد حتى يتمكن من ان يعمل وينتج وحتى يستطيع ان يقدر القيم الروحية فيؤمن بها ويمارسها ، وحتى يقدر على الموازنة بين الأساليب السلوكية المختلفة فيميز بين طريق الخير وطريق الشر ، وبذلك يستطيع ان يعيش في المجتمع كمواطن واعٍ منتج ونافع و متعاون.
زاوية قديمة
وأنه من المؤسف حقاً ان تقتصر احاديث المجتمع على الادارة التعليمية وحدها ، أو على العلم وحده ، أو على التعليم في حد ذاته ، خاصة في هذه الفترة من تاريخ عالمنا الذي تزعزعت فيه العقائد واضطربت فيه القيم .. فكلام الناس في هذا المجال يدور حول الضرورة في فتح فصول في مرحلة تعليمية معينة أو في المراحل كلها ، وحول الضرورة في ان تفتح المدارس والمعاهد أبوابها على مصراعيها لكل طالب و لجميع الطلاب على السواء ،كما تقتصر على ما ينبغي ان تقوم به الدولة كي توفر أماكن في المدارس و المعاهد والكليات للآلاف المؤلفة من أبناء الأمة مهما كانت قدراتهم واستعداداتهم للتعليم في اختلاف مراحله .. وتلك مسائل لها اهميتها ، ولكن اقتصار التفكير عليها لا يكفي إطلاقاً للكشف عن الطريق الاقوم نحو تنشئة الجيل الصاعد ، ولتحقيق أهداف المجتمع في خطط تنميته ، أو لبناء مجتمع جديد على فلسفة جديدة ، والمعروف أن كل مجتمع في الوجود له فلسفة وقيم يعيش في إطارها وله مستويات متعددة متفاوتة من الكفايات في موارده وبين أفراده ، كما انه يحتاج دائماً إلى قوى بشرية عاملة تتباين اعدادها وتخصصاتها .. وتختلف بحسب الحاجة والظروف و وسائل التعليم والتدريب وإمكانياتهما.
من المشاهد المؤسفة في هذا العصر أيضاً ذلك التكالب العنيف على التحصيل العلمي المجرد وحده ، لدرجة جعلت الوالدين في كثير من الأحيان ينسيان ان لأبنائهما طفولة ، وان لهم قدرات وإمكانيات عقلية وجسمية محدودة ، وان لهم ميولاً ورغبات ونزعات خاصة .. ينسيان كل ذلك ويدفعان ابنائهما إلى التحصيل العلمي دفعاً قوياً لا هوادة فيه ولا رحمة ، على الرغم من صغر أعمارهم وضآلة قدراتهم .. فنجدهم يتعجلون الحاقهم بالمدارس قبل سن الخامسة والسادسة ، ونجدهم يستكثرون عليهم ثماني سنوات يقضونها بالمرحلة الابتدائية مثلاً فيحاولون القفز بهم من صف إلى آخر ، ونجدهم يرهقونهم بدروس خاصة تستنفد طاقاتهم وتعطل عمليات نموهم وتستقطع من اوقات لعبهم ونشاطهم الحر .. ونجدهم يزجون بهم في انواع من التعليم لا تتفق وميولهم واستعداداتهم .. الأمر الذي يؤثر على نموهم ، ويحد من تجاربهم ، ويبكر عبوسهم ويرهق اعصابهم ، ويحرمهم من طفولة طليقة سعيدة بريئة ومن حياة مرحة بناءة ، لها أثرها في نموهم وتفكيرهم واتجاهاتهم وإنتاجهم ،م ولها اثرها في حاضرهم وتوجيه مستقبلهم. ولقد صدق من قال ان عبوس الرجال انما هو نتيجة لطفولة مقيدة خلت من الانطلاق والمرح ..
فالوعي التعليمي الذي تتميز به هذه الفترة في حياتنا يجب ان يصطبغ بعمق التفكير ، وبصدق البحث في الأصول والمبررات ، وان يتصف بالأمانة والشمول في مناقشة الأهداف والقدرات والبرامج والنتائج ، وان تصحبه دراسة موضوعات التربية والتعليم في جميع جوانبها وزواياها بقصد رسم الهدف العام من التربية والتعليم في الدولة ، والاتفاق على أهداف كل مرحلة تعليمية على حدة في ضوء فلسفة الدولة أيضاً .. ورسم الخطوات التنفيذية لكل منها في حدود امكانيات المجتمع وما يتطلع له ثم تحديد الاعداد التي تنتظم في كل مرحلة وفق قدرات الأفراد واحتياجات المجتمع ومطالب كل بيئة .. وكذلك توفير المعدات والاستعدادات التي تحقق الغرض من انشاء المدرسة على أحسن المستويات ..
إن علينا ان نستعرض احتياجاتنا وإمكانياتنا استعراضاً أميناً جريئاً مفصلاً شاملاً ثم نستمد القوة بعد ذلك من أيماننا وأحلامنا وقوميتنا لنواجه الحقائق في صدق وعزم ، وفي مضاء وشجاعة ، كي نقوم بالتغيير الهادف ، أو بالإصلاح الشامل أو بالعلاج وسد النقص ، كما ان علينا ان نحدد كل الذي نريده وان نتدبر أمرنا في وضوح ، وان نعد ابناءنا اعداداً سليماً خلال سعينا إلى التنمية والرخاء وتحقيق العدالة ، لنكون من ذلك كله المجتمع الافضل الذي نريده ..
إن مفهوم التربية بمعناها العام يتضمن أنواع النشاط التي تؤثر في قوى الفرد واستعداداته وسلوكه ، ومصدر هذه الانواع المختلفة في النشاط عوامل مختلفة .. فلا يشمل مفهوم التربية ما نقوم به من اعداد لأنفسنا فقط أو ما يقوم به غيرنا لتنمية قوانا حتى تصل إلى أقصى ما يمكن من كمال فحسب بل يشمل المفهوم ما هو أكثر من ذلك إذ يحوي كل تعديل وتهذيب لأخلاقنا وسلوكنا وتطلعاتنا ويحوي أيضاً كل ما يتم بطرق غير مباشرة وبأساليب غير الأساليب الشائعة في المنزل والمدرسة : كالقوانين السائدة ، ونظام الحكم وأنماط المعيشة والتقاليد والعادات الاجتماعية والذوق والعرف وغيرها ، فمع ان العامل الأساسي لإعداد القوى العاملة وتجهيزها هو التعليم ومعاهد ومراكز التدريب والتأهيل إلا أن هناك بعض العوامل الأخرى التي لها اثرها على عملية الاعداد والتجهيز : كالأسرة والحالة الاجتماعية والخبرة وأنشطة المجتمع وأساليبه في العمل والترويج واتجاهاته في ضروب الحياة كلها ..
فهذه العوامل غير المباشرة تؤثر في التربية كما تؤثر فيها أيضاً عوامل أخرى كالبيئة المادية والظروف الطبيعية التي لا تخضع لسيطرة الفرد كالجو والموقع الجغرافي وغيرها. لذلك يعتبر كل ما يساعد على تشكيل الكائن البشري وجعله في الحالة التي هو عليها ، من العوامل المؤثرة في تربيته ..
وعلى هذا فالتربية بهذا المعنى تشمل كل تنمية وتهذيب على قوى الفرد واستعداداته ونواحي سلوكه بقصد توجيهها.
مفاهيم
أما التعليم فيقصد به نقل المعلومات من المعلم إلى المتعلم بقصد اكسابه ضروباً في المعرفة فمعناه على هذا النحو محدود في هذا الاطار في حين ان التربية ذات معنى أوسع وأسمى وأشمل لأنها تتضمن كل نهوض وترقية ايجابية لقوى الفرد. فالتربية بهذا المعنى تنصب على جميع نواحي شخصية الفرد من جسمية وعقلية وخلقية. أما التعليم فيقصد به أولاً وبالذات نقل المعرفة إلى الفرد كإحدى الوسائل في تربيته. فهو بهذا المعنى عامل جزئي وليس فيه من الإيجابية للفرد المتعلم إلا بقدر ما يستطيع ان يحصل عليه من المعرفة.
ويرجع تحديد معنى التربية في دائرة التعليم الضيقة إلى ان العناية بالعلم في الماضي أدت إلى ان ينظر إليه كوسيلة لتكميل الفرد خلقياً وعقلياً .. لأن المعرفة كما كان في الاعتقاد السائد تؤِثر على صاحبها والحقيقة ان ليس للمعرفة من أثر في حياة الفرد إلا إذا كانت معرفة حية مفهومة مطابقة لواقع الحياة حتى يستفيد منها في سلوكه .. ولكننا مع الأسف نجد ان الأمر على النقيض من ذلك في معظم ميادين المعرفة التي يحصل عليها تلاميذنا في المدارس الآن .. إذ أن هم المدارس هو اتمام المقررات بأية صورة ، وهم التلاميذ هو حفظ هذه المقررات بقصد النجاح في الامتحان ..
وقد اثبتت التجارب من تتبع حياة التلاميذ بعد تخرجهم في المدرسة ان التفوق في الامتحان ليس دليلاً كافياً على النجاح في الحياة العملية ، وان مجرد المعرفة لا تكفي فكم من تلميذ مبرز في المدرسة فشل في ميدان العمل لنقص في تربيته. ولذلك تقلل التربية الحديثة من شأن المعرفة المجردة التي تأتي عن طريق التعليم الجامد ، أو عن طريق السلبية في التعليم ، كما تقلل من شأن المعرفة التي لا تتصل بالبيئة أو لا تمت للحياة بصلة ..
فعملية التربية والتعليم إذاً يجب ان تكون منصبة على قوى الطفل كلها - دون استثناء - كما ينبغي ان تحاول الكشف عن تلك القوى لتدريبها وتنميتها وتوجيهها الوجهة الصالحة حتى يكتسب الطفل من ذلك عادات عقلية وجسمية واجتماعية نافعة له كعضو في المجتمع وحتى يكتسب ايضاً مهارات يتمكن بواسطتها من تكييف سلوكه بحسب الظروف المختلفة. وكذلك ينبغي ان تكون التربية منصبة أيضاً على وجدانه و ذوقه حتى تتكون منها عواطف تلتف حول الحق والعدل والجمال ذلك لان التربية ما هي إلا تنظيم للقوى البشرية وتهذيب لها ، بغية اكتساب سلوك يتفق ونظام المجتمع. وهذا التنظيم يضمن للفرد حسن التصرف والقدرة على التكيف في عالمه الاجتماعي والمادي ..
أما التعليم وحده فهو محدود بالمعرفة التي يقدمها المدرس للتلميذ فيجعلها في نطاق فكرة التحصيل .. وليست المعرفة دائماً فوزاً إلا إذا فهم معناها ومغزاها واستخدمت فعلاً واستفاد منها صاحبها في حياته وسلوكه واستفاد منها المجتمع في بناء نفسه ولا يمكن ان يتحقق ذلك إلا إذا عنى التعليم بعقلية المتعلم وميوله ونشاطه وقدراته وسلوكه بما يحقق له إيجابية فعالة في الحاضر والمستقبل ، واتصل ببيئته ومطالب مجتمعه اتصالاً مباشراً. وهذا الاتجاه في التعليم هو الذي يقرب مفهوم التعليم من مفهوم التربية ، حيث ان ما ينتج من أثر في انماء القوى والمواهب وتهذيب الوجدان وتكوين العادات الصالحة والعواطف الطبيعية يعتبر تربية ..
صياغة الانسان
وجدير بنا ان نتذكر دائماً ان ثروة بلادنا لا تتوقف على الاعداد التي تعيش في هذا الوطن وتحيا على أرضه الطيبة بقدر ما تعتمد على ما يتوافر لها من مواطنين صالحين قادرين على التفكير في أمر هذه الثروة و البحث في وسائل استثمارها والعمل على تنميتها .. كما يجب ان نتذكر أيضاً ان توافر الثروة وحده دون تربية وتعليم من يستثمرون هذه الثروة وإعدادهم ودون تهيئة الفرص لهم للتدريب والتجربة واكتساب الخبرة يجعل بلادنا محط انظار الانتهازيين والطامعين ..
ونحن ندرك أيضاً أن تحقيق النمو الاقتصادي للمجتمع وبالتالي نموه الاجتماعي ووضع تقدير شامل للمطلوب من الكفايات التصميمية والعملية لتحقيق تلك التنمية إنما يتطلب فيما يتطلبه تحليل جميع العناصر التي تدخل في تكوين الدخل القومي والإنتاج وفي شكل الهيكل الوظيفي ونظمه في الدولة .. كما يتطلب تقدير معدلات الزيادة الكمية والنوعية فيهما ، فسياسة الدولة الاقتصادية حين ترسم خطوطها الاساسية تراعي ما يلزم التغييرات الفنية والتنظيمية التي يجب القيام بها وتحدد مكونات القوى العاملة وصفاتها ومميزاتها وتحديد المستويات اللازمة لإمكان احداث أي تغيير أو تعديل في التركيب الحالي لتلك القوى وتزويدها كماً وكيفاً وتنظر في تحسين امكانيات المدارس ومراكز التدريب ومكوناتها .. وتنظر في وظيفة المدرسة ووظيفة المعلم بالنسبة للتلميذ وللبيئة .. وكلها عمليات تلقي مسئوليات كبرى على التربية والتعليم .. ولكنها عمليات ضرورية في حياة المجتمع ينبغي ان تلقى الرعاية من الدولة كما يجب ان تلقى العناية من كل المسئولين والمعنيين سواء أكان ذلك في نطاق التوعية والتثقيف العام أم في نطاق الاعداد والتدريب والتأهيل ..
ذلك لأن النمو الاقتصادي يستلزم وجود قوى بشرية عاملة جيدة للتدريب ، كما ان زيادة رأس المال المستثمر تدعو إلى خلق مجالات جديدة للعمل ..
فما هو هدفنا من التربية والتعليم إذاً؟
- هل هدفنا الوصول إلى مرتبة المواطنة المستنيرة فحسب ؟ وان كان الأمر كذلك فما هي مستويات هذه المواطنة ؟ وما هي مواصفات كل مستوى منها ؟
- أم هل هو اعداد عدد من الموظفين وعدد آخر من العلماء وعدد ثالث من العمال في شتى المهن والحرف؟
- وهل هو الحصول على عمال مهرة ذوي مستويات متعددة من المهارة مع اكسابهم اقداراً من الثقافة ؟
- أم هو اعداد مواطنين مثقفين وعمال مهرة؟
- هل هو اكساب النشء مهارات تمكنهم من كسب العيش؟ أم هو الاعداد الشامل بقصد الاقدار على التكيف مع المجتمع ومطالب الحياة؟
هل هدفنا تنمية الانسان الفرد عقلياً وبدنياً وروحياً؟ أو تنمية المجتمع عن طريق تنمية القوى العاملة فيه لصالح الجميع؟ أم هدفنا هو كل ما سبق من ميادين ومجالات ؟
إن من الواجب ان نحدد هدفنا أولاً من التربية والتعليم قبل ان نخطط للتربية والتعليم ..