مآثر تربوية
مراعاة الفروق الفردية بين الطلاب
من حكمة اللهِ في خلقه أنهم يختلفون في أجناسهم ، وألوانهم ، وطبائعهم وقُدراتهم ، وطرائق تفكيرهم . وهذه المظاهر واضحة جليَّة للجميع ، وهي التي تُميِّز الإنسان عن غيره من الأفراد . وهذه المظاهر والاختلافات يُطلَق عليها الآن (الفروق الفردية والعقلية) ، ويقصُد بها تبايُن واختلاف الناس في صفاتهم الجسمية والعقلية والسلوكية والانفعالية ، وقد أصبحتْ الآن الفروق الفردية حقيقة ثابتة لا تقبل الجدل ، لتدلِّل على قدرة الخالِق وحده ، وإعجازه في خَـلْقه ، فسبحان الله .
لِذا كان لزاماً على المعلِّم أن يكونَ حاذقاً في معاملته مع طلابه ، وأن يحسن استثمار هذه الفروق ليوجِّه طلابه الوجهة السليمة المتناسبة مع قدراتهم ومواهبهم وطموحاتهم ، وعليه أن يحسن التعامل مع جميع طلابه ، فلا فرق بين متميِّز أو متوسط أو قليل الذكاء ، بل كلٌّ ينال نصيبه من الرعاية وحُسن التوجيه والتربية المتوازنة مع استعداداته وميوله وحاجاته .
وقد أكّد العلماء والمربّون قديماً وحديثاً على أهمية معرفة المعلِّم لطبيعة المتعلمين والفروق الفردية بينهم . وقد عرَف العلماء المسلمون أهمية هذا الجانب ، وضرورة أن يتعامل العالم مع الجميع على قدر مستوياتهم ، فمِن آداب العالِم المهمة : " أن يقتصر بالمتعلِّم على قدر فهمه ، فلا يُلقي إليه ما لا يبلغه عقله فينفِّره ، أو يخبط عليه عقله ".
وقال عبد الله بن عباس:" حدِّثوا الناسَ بما يعرفون،أتريدون أن يُكذَّب الله ورسوله " ؟.وهذا يؤكِّد وجوب الاهتمام بالفروق الفردية بين الطلاب ، ولزوم التعامل معهم وفقاً لهذا المبدأ . قال أبو الطفيل : " سمعتُ علياً يقول : أيها الناس ، تُحبّون أن يُكذَّبَ الله ورسوله ؟. حدِّثوا الناسَ بما يعرفون ، ودَعوا ما يُنكِرون "
وعلى العالِم أن يتواضع لطلابه في أسلوب عرضه للدرس ، وطريقة إلقائه له ، فلا يسرده على نمطٍ واحد ، أو بطريقة معينة، بل عليه أن ينوّع، وأن يعطي كل فقرة حقها من التوضيح والشرح والبيان، بدون إطالة أو إملال .
قال البغدادي : " كان شيخنا السيد أبو المناقب محمد بن حمزة العلوي إذا قرأنا عليه وأطلنا ، قال : قوموا ، ما طال مجلس إلاَّ وللشيطان فيه نصيب " . وإذا احتاج بعض طلابه إلى الإعادة والتكرار ، فلا يمنع أن يعيد لهم ما خفي عليهم أو لم يسمعوه ، من أجل أن تتحقق الفائدة وتعمّ المنفعة للجميع ؛ لأنّه بالتكرار يستوعب الجميع ، وتثبت المعلومات والأفكار في أذهان الطلاب ، بالرغم من العنت والمشقة التي يلاقيها العالِم من تكراره للحديث ، ولكن العالِم المتواضع لا يبالي بذلك ؛ لأنّ هدفه أعظم . ويكفيه اقتداءً بالرسول الكريم الذي قد يعيد الكلمة مراراً لتفهم عنه ، قالت جارية ابن السماك لواعظٍ له :" ما أحسن حديثك ، إلا أنـَّكَ تكرِّره ،
فقال : أكرره ليفهمه كلّ مَن سمعه "
فلا شك أنّ تكرار الدرس للطالب دليل على تواضع العالِم ولين جانبه له ، ومن آدابه أيضاً : " إذا فرغ من مسألة أو فصْلٍ ، سكت قليلاً ، حتى يتكلَّم مَنْ في نفسه "، بحيث يتيح للطلاب - الذين لم يفهموا بعض العناصر أو النقاط في الدرس - سؤاله ومناقشته ، وإعادة شرحه لتلك الجزئية ، وهذه السكتة تدلّ على شيئين :
أولهما : تواضع العالِم واستجابته لطلابه .
ثانيهما : مراعاته للفروق الفرديّة بينهم ، فمنهم مَن يفهم بسرعة ، والبعض على العكس من ذلك، فعلى العالِم أن يبذل جهده من أجل التوفيق بين حاجات المجتمع ومتطلباته ، وميول واتجاهات طلابه، بحيث يوجِّه الطالب للمجال الذي يستطيع الاستمرار فيه بشرط أن تساعده قدراته واستعداداته للاستمرار في ذلك التخصص ، أو الفنّ الذي اختاره .
ولذلك " ينبغي لطالب العلم ألاّ يختار نوع العلم بنفسه فقط ، بل يستعين بأستاذه ، فإنّ الأستاذ قد حصل له التجارب في ذلك ، فيكون أعرَف ما ينبغي لكل واحد ، وما يليق بطبيعته "، لأنّ ذلك أدعى للحصول على المطلوب ، والاستمرار في المجال المناسب له ، " حكي أن تلميذاً سألَ عالِماً عن بعض العلوم ، فلم يُفِدْه ، فقيل له : لِمَ منعـتَه ؟. فقال : لكل تُربةٍ غرس ، ولكل بناءٍ أُسّ "" وكان يحكى أن محمد بن إسماعيل البخاري - رحمه الله تعالى - كان يبدأ بكتاب الصلاة على محمد بن الحسن - رحمه الله تعالى - ، فقال له : اذهب وتعلَّم علم الحديث ، لَمّا رأى أنّ ذلك العلم ألْـيَق بطبعه . فطلب علم الحديث ، فصار فيه مقدَّماً على جميع أئمة الحديث "
وإذا شعر الطلاب بالملل ، فمن الأفضل ألاَّ يحرمهم العالِم من الترويح البسيط ، والمداعبة النافعة ، والنشاط المقصود ؛ لأنّ ذلك يزيل ما أصاب البدن من كَلل ، والنفس من مَلل ، وتزداد الحاجة أكثر إلى الترويح والمزاح مع الطلاب في المراحل المبكرة من أعمارهم ؛ لأنّ الترويح يبعث فيهم نشاطاً في أجسامهم ، وقوةً في عقولهم .
فواجبٌ على المعلِّم اليوم أن ينظرَ إلى الفروق الفردية بين طلابه نظرة الناقد البصير ، والمربي الذكي يستفيد منها في توجيه طلابه للأفضل ، فيستفيد الطالب والأمّة ، وذلك بمراعاة قُدرات الطالب وميوله واستعداده ، فيوجِّه البعض للاستمرار في طلب العلم ، وبعضهم للانخراط في الأعمال المهنية ، وبعضهم يوجِّهه إلى مجال الدعوة وميادين فعل الخير، وبعضهم للجانب التطبيقي في العلوم،وهكذا .
وبالله التوفيق .