القرآن مدرسة المسلمين الأولى الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيّدنا محمّد، خاتم النبيّين، وأشرف المرسلين، وبعد:
فإنّ القرآن الكريم مدرسة المسلمين الأولى، وهي المدرسة الّتي دَرَس فيها الصحابة الكرام، وتخرّجوا فيها، وأسهموا في بناء الحضارة الإسلاميّة، والّتي لم تختف لحظةً من اللّحظات، والّتي تعمل دائماً وأبداً على سعادة البشريّة. وإنّ العمود الفقريّ لهذه الحضارة الإسلاميّة القرآن الكريم، الموحي به ربّ العالمين، الّذي تبيّنه السّنّة النّبويّة المطهّرة.
ومن متعلّقات القرآن الكريم الّتي انعكست على حضارته الخالدة ما يأتي:
1- القرآن الكريم هو الكتاب السّماويّ الوحيد الّذي تكفّل الله تعالى بحفظه إلى يوم الدّين. قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، فخلود الحضارة الإسلاميّة من خلود القرآن الكريم وخلود مدرسته.
2- القرآن الكريم كتاب هداية أَوّلاً وآخراً. قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (9) سورة الإسراء.
3- السّنّة النّبويّة المطهّرة هي المبيّنة لهدي القرآن الكريم. قال تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.
4- إنّ لنا نحن المسلمين، تلاميذ مدرسة القرآن الكريم، أسوةً حسنة في محمّد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم -. قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}.
فما هي الدّروس الّتي ينبغي أن يتعلّمها تلاميذ مدرسة القرآن الكريم من هدي محمّد - صلى الله عليه وسلم -, الّذي كان خُلُقه القرآن الكريم، كما قالت السّيدة عائشة - رضي الله عنها - في تبيين خلقه صلى الله عليه وسلم. وقد قال الله تعالى خطاباً له صلى الله عليه وسلم في سورة القلم (الآية4): {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.
إنّا بتدبّر هذا الجانب من حياة النّبيّ صلى الله عليه وسلم نتبيّن أنّ هناك ثلاث درجات متوالية، تسير على النّحو الآتي:
1- تلاوة القرآن الكريم وترتيله ترتيلاً مجوّداً. وقد جاء خطاباً للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، وأمّته تَبَعٌ له في ذلك، بقوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}.
2- فهم معاني القرآن الكريم، وهو ما يُسمَّى بعلم التّفسير.
وقد بيَّن الله تعالى للنّبيّ صلى الله عليه وسلم معنى القرآن الكريم. جاء في سورة القيامة قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}. وحرف العطف (ثمّ) يفيد التّرتيب مع التّراخي كما يقول النّحويّون. فمرحلة التّبيين أو التّفسير تالية.
3- العمل بهدي القرآن الكريم. والهداية أهمّ وظائف القرآن الكريم، وهذه هي المرحلة الثّالثة والأخيرة.
هذه المراحل الثّلاث متلازمة، وإنّ لنا في تلاميذ محمّد صلى الله عليه وسلم أسوةً حسنة. وهذا التّلازم بين المراحل الثّلاث هو الّذي يبيّن لنا معنى القول: إنّ عمر - رضي الله تعالى عنه - تعلّم سورة البقرة بفقهها وما تحتوي عليه من معانٍ في اثنتي عشرة سنة، وابنه عبدالله بن عمر - رضي الله تعالى عنهما - في ثماني سنين (تفسير القرطبيّ. ص 34).
ويبدو معنى تداخل هذه المراحل الثّلاث جيّداً حينما يتبيّن قارئ القرآن الكريم وحافظه أنّه يستطيع أن يقرأ سورة البقرة قراءةً مجوّدة في حدود السّاعتين الاثنتين.
هذا هو الّذي تبيّنته شخصيّاً، وتبيّنته من طالباتي في الجمعيّة الخيريّة لتحفيظ القرآن الكريم. وإنّ البَوْنَ لَشاسِعٌ بين الوقت الّذي نستغرقه في تلاوة سورة البقرة والاثنتي عشرة سنة أو السنوات الثّماني.
إنّ كلاًّ من المراحل الثّلاث غاية في الأهمّيّة. مرحلة التّلاوة: روى مسلم عن ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقّلة (المقيّدة) إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت. وإذا قام صاحب القرآن فقرأه باللّيل والنّهار ذكره، وإن لم يقم به نسيه» (تفسير القرطبي 1-7).
وإنّ تطبيق الصحابة - رضي الله عنهم - هذه المراحل الثّلاث في فجر الإسلام هو الّذي جعلهم يوحّدون الجزيرة العربيّة تحت إمرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم في زهاء ثماني سنوات.
وهو الّذي جعل دولة الإسلام بعد مئة عام من وفاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم تمتدّ دون انقطاع من الصّين شرقاً إلى فرنسا غرباً. وهي دولة هديها القرآن الكريم، ولسانها العربيّة لغة القرآن الكريم.
إنّ لنا في السّلف الصّالح لأسوةً حسنة.
1- القرآن الكريم معجزة نبينا محمّد صلى الله عليه وسلم الكبرى الخالدة.
2- أخرج الله تعالى بالقرآن الكريم النّاس من الظلمات إلى النّور.
3- لنا فيه صلّى الله عليه وسلّم الأسوة الحسنة، ولنا في الصّحابة - رضوان الله تعالى عليهم - القدوة المثلى.
4- تتجلّى مدرسة القرآن الكريم دائماً وأبداً في ثلاث مراحل (التّلاوة، الفهم، العمل).
لننظر أولاً إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بشأن هذه المراحل الثّلاث.
أ- الترتيل أو التّلاوة: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}، ويشمل ترتيل القرآن الكريم نظراً وغيباً.
والنّبيّ صلى الله عليه وسلم الرّسول الأمّي يتلو القرآن الكريم غيباً. والأمّة وراء ذلك تتلُوه نظراً وغيباً. تكفل الله تعالى بجمع القرآن الكريم في صدره وإقرائه إيّاه بواسطة جبريل عليه السّلام. فعلينا العناية بالقرآن تلاوة وحفظاً.
الفهم - والمراد التفسير - وهذه المرحلة تأتي بعد الأولى. وإلى ذلك أشارت سورة القيامة في قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}. ومعروف أن حرف العطف ثمّ يفيد الترتيب مع التّراخي؛ فعلينا أن نفهم القرآن الكريم، ونتدبّره، والقرآن الكريم حثّنا على ذلك: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}.
العمل: إن أول وظيفة للقرآن الكريم، وأهم هدف منه هو الهداية إلى الطّريقة الّتي أقوم من كل طريقة {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}، وتأتي وراء ذلك أهداف القرآن الكريم وغاياته الّتي لا يأتي عليها الحصر.
إنّ هذه المراحل الثّلاث قد وعاها السّلف الصّالح؛ ولهذا احتاج عمر - رضي الله تعالى عنه - إلى اثني عشر عاماً كي يقرأ سورة البقرة، واحتاج عبدالله بن عمر - رضي الله تعالى عنهم - إلى ثمانية أعوام.
ونحن يستطيع الواحد منّا أن يقرأ سورة البقرة في أقل من ساعتين اثنتين. وإنّ السّنوات الّتي احتاجها كل من عمر وولده عبدالله - رضي الله تعالى عنهما - من أجلّ المرحلتين الثّانية والثّالثة.
وإنّ المرحلة الثّالثة هي الّتي احتاجت أكثر السّنوات.
إنّ عمر وابنه - رضي الله تعالى عنهما - مثال للقدوة الصالحة في صدر الإسلام، وهؤلاء هم الّذين وحَّدوا الجزيرة العربيّة وحوّلوها تحت قيادة نبينا محمّد صلى الله عليه وسلم من الشّرك إلى التّوحيد في زهاء ثماني سنوات، وهؤلاء هم الّذين امتدت دولتهم بعد مئة عام من وفاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم من الصّين شرقاً إلى فرنسا غرباً دون انقطاع.
وإنّ لنا فيه صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، وإنّ لنا في الرعيل الأول أسوة حسنة، والله تعالى من وراء القصد، وهو حسبي ونعم الوكيل.. نسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا، وأن يهب لنا من أمرنا يسرا.