(التعليم في اليمن بين الألم والأمل ) { العلم وحده القادر على حل مشكلات الجوع والفقر والمرض والجهل والخرافات والعادات والتقاليد البالية ، والثروات الآيلة للنضوب ،والبلدان التي تتضور شعوبها جوعاً } جواهر لال نهرو أول رئيس وزراء للهند .
إن بناء قاعدة للمستقبل لأي مجتمع تنطلق من القاعدة الأساس والمتمثلة بالتعليم ، لأنه لا تطوير ولا تنمية حقيقية إلا من خلال التعليم ، ولا يمكن بأي حال الحديث عن مرحلة من الازدهار للتعليم في المستقبل في ظل المؤشرات التي تفيد بان نسبة الملتحقين بالتعليم للفئة ( 6- 15) 56% وهذا ما يؤكد أن الواقع التعليمي بكل تفاصيله مازال يتدحرج ويهوي إلى الأسوأ .
وفي ظل الوضع التعليمي الحالي وباعتراف القائمين على هذه المؤسسات التعليمية ، تبقى الإشكالية مستمرة وتزداد مع مرور الزمن ، خاصة وان عدد سكان اليمن سوف يتضاعف الى حوالي 40 مليون خلال عقدين من الزمن ، وهذا نتيجة نسبة نمو سكاني يبلغ 3.1% ، أي أن الإشكاليات سوف تتضاعف مع تزايد أعداد الملتحقين بالتعليم العام ، وهذا ما يتطلب مضاعفة الأموال والجهود المستنيرة القائمة على حسن التخطيط في كل الميادين ذات العلاقة .
ومع ما ذكر من حقائق ماثلة أمام الجميع ورغم وضوحها بكل تفاصيلها لمسؤولي التعليم في اليمن ، إلا أن هذا لم يكن كافياً للبدء في تنفيذ الحلول العملية للوصول إلى تعليم متكامل ومتوازن يلبي الاحتياجات المختلفة للمجتمع والدولة على حدٍ سواء ، ولكن بالمقابل كانت المؤتمرات والندوات واللجان المستحدثة باستمرار والبحوث الدراسات المتكررة والتي تكلف خزينة الدولة ملايين الدولارات بمثابة الهروب إلى الأمام للحيلولة دون الإصلاح الفعلي للمنظومة التعليمية ككل .
التعليم العام ..... القاعدة
الحديث عن التعليم العام الذي يمثل الحلقة الرئيسية التي ترتبط بها بقية الحلقات في مراحل التعليم التالية، بحيث أن أي قصور أو في التعليم العام يكون ذات مؤثراً على مخرجات التعليم الجامعي والتعليم الفني والتقني.
وبناء على هذا الترابط تنظر الحكومات المتعاقبة للتعليم العام باهتمام بالغ ، وبرز هذا الاهتمام وأصبح أكثر فاعلية من خلال وضع إستراتيجية وطنية للتعليم العام بمستوياته المختلفة والتي تهدف إلى تحسين وتطوير البنية الأساسية التي تكفل الارتقاء بالعملية التعليمية لمستويات أكثر كفاءة وإنتاجية في المستقبل .
وفي هذا السياق ومن خلال القراءة في تلك الاستراتيجيات التي وضعت البناء والارتقاء بالمنظومة التعليمية إلى مستويات متقدمة هدفاً تتضافر لأجل تحقيقه جميع الإمكانيات البشرية والمادية في الدولة ، كانت بتفاصيلها واقعية وبمعنى أخر أنها لم تكن مستحيلة التحقيق .
ولكنه وبمرور السنوات من عمر تلك الإستراتيجية ومن خلال البحث في ما أنجزته السياسات على أرض الواقع ، يتبين أن مستوى التنفيذ لم يرتقي إلى الطموح والآمال ، بل العكس من ذلك فالتعليم العام بمرحلتيه الأساسية والثانوية في تدهور مستمر ، وهذا الواقع لم يعد خافياً على احد حيث أشار تقرير للبنك الدولي فيما يخص التعليم في الشرق الأوسط ، ان اليمن وبجانبها جيبوتي والعراق تحتل المستوى الأدنى من حيث سهولة الوصول لمصادر التعليم ونوعيته ومدى فاعليته .
أصبح التعليم بمؤسساته المختلفة وتوجهاته مؤشرا مهمًا وخطيرا لقياس مدى ثقافة وتقدّم المجتمعات، ومسار التنمية فيها، وأصبح عدد العقول الالكترونية المستخدمة في بلدها مؤشرًا هامًا لا لتقدمه الصّناعي والتكنولوجي فحسب، بل لتقدمه النّظري أيضًا، ولارتفاع التّفكير العلمي بين باحثيه. وفي المقابل فإنّ هجرة العقول العلمية يعد مؤشرا خطيرا لقياس درجة تدني المستوى التعليمي.
وفي عصرٍ ينعم بالتكنلوجيا والوسائل المتقدمة، دخلت مصطلحات جديدة في القاموس التعليمي منها: الكتاب الالكتروني، المكتبات الالكترونية، المنهج الالكتروني، الوسائل الرقمية، المعلم والمدرسة والمؤسسة التربوية الالكترونية ..
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة: ما نصيب مدارسنا ومؤسساتنا التعليمية – بمختلف تنوعاتها – من خيرات هذه التكنلوجيا؟ وهل كل شرائح وطبقات المجتمع تستفيد من تطبيقاتها المختلفة؟ أم هي حكر نخب اجتماعية معيّنة؟ وهل الفجوة الرقمية في طريقها إلى الازدياد؟
وفي الواقع التعليمي في بلادنا الكثير من التناقضات، والمفارقات، والمضحكات المبكيات، أختار منها بعض المشاهدات من الذاكرة:
ففــــــــــــــــــــــي ذاكـــــــــرتي: ندوة أقيمت في إحدى كليات التربية دارت محاورها حول: إعداد المعلم من أجل ( خدمة أفضل لمجتمع النّخبة الغني ) والتعامل مع مدارسهم الخاصة المدعومة بالتكنلوجيا والحواسيب ووسائل التعليم الحديثة بكل إخلاص وتفانٍ وتواضع!!!
وفــــــــــــــــــــي ذاكـــــــــــــرتي: كيف كرّس أحد المسئولين التربويين في بلادنا مبدأ المساواة والعدالة في إحدى المدارس الحكومية ( حيث مجتمعات الأغلبية الفقيرة ) عندما وجّه بإخراج بقية المقاعد وطاولات الدراسة من أحد الفصول الدراسية أسوة ببقية طلبة المدرسة الذين يقبعون تحت الأشجار لتلقي العلم .... إنه مجتمع التناقضات حيث التكنلوجيا وجميع الوسائل منحازة لمن يملك ... أما الذين لا يملكون فلا مكان لهم في خطط التنمية ومشاريع الندوات!!!!
أمّا مؤسسات التوعية الاجتماعية الأخرى، وأبرزها: وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، ودور العبادة، فقد أصبحت هي الأخرى منبرا للتحريض الطائفي، أو المذهبي، أو مسرحا للدعايات السياسية، وذلك بتمرير سياسات، ودعم مراكز قوى معيّنة، وخلق عقول نمطيّة قابلة للإيحاء والاستغلال، والتلاعب بالعقول من أجل تحقيق أهداف فئة قليلة تتحكم في الإعلام، وربما كان الإعلام مكانا للتزييف الاقتصادي المتمثل في ترويج سلعة بين الناس، أو مركب دوائي، ويعتمد على ابتكار أكثر الطّرق فاعلية لخلق حاجات أو رغبات مصطنعة بين النّاس.
والمساجد أو دور العبادة لم تسلم هي الأخرى من مظاهر سلبية أدّت إلى أن تفقد دورها الاجتماعي المهم، فأضحت ساحة للاحتقان الطائفي، أو التعصب المذهبي، وساهمت بإفراز عقليات متحجرة، أوتفريخ طبقات متعصّبة لا تتعامل بغير التعصب واحتكار الحقيقة، والادعاء الزائف بامتلاكها ....
وفي ذاكـــــــــرتي: شيخ فاضل من أساتذتنا كنت كثيرا ما أسمعه في سنوات دراستي الجامعية الأولى يتحدث عن دور المساجد في نشر الوعي وتلقي العلوم الشرعية، داعيا الطلاب لتخصيص شيء من أوقاتهم في طلب العلم على أيدي شيوخ الجوامع، تمر سنوات الدراسة، وإذا بي في نهاية المرحلة الجامعية، وإذا بذاك الشيخ عينه يحذّر مما كان يأمر به سابقا .. استغربتُ الأمر ، وعرف ذلك في تعابير وجهي، ولسان حالي، فاستدرك قائلا: لقد تحوّلت دور العلم ومساجد العبادة – في أغلبها – عن مسارها، وأصبحت المنابر تثير العواطف بدل أن تنمي العقول، وتنشر التعصبات الضيّقة وتنبذ التسامح، وأصبح شيوخها يدّعون احتكار الحق، وغيرهم يرتع في الباطل، ويتبارون في كيل الاتهامات والشتائم باسم الجرح والتعديل!